فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [14].
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ} أي: المحدث عنهم في أول السورة: {آمَنَّا} أي: بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، زعماً أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} أي: لستم مؤمنين، وإن أخبرتم عنه، لأن الإيمان قول وعمل {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي: انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة، والبعد من ركوب المناهي، فإن لكل حق حقيقة، ولكل دعوى شاهد.
فإن قيل: في قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} بعد قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة؟ والجواب: إن فائدة قوله: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} تكذيب دعواهم، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في: {قُولُوا}. وما في: {لَمَّا} من معنى التوقع، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد، فلا تكرار. هذا ما أشار له الزمخشري، واختار كون الجملة حالاً، لا مستأنفة، إخباراً منه تعالى، فإنه غير مفيد لما ذكر.
تنبيهات:
الأول- قال في الإكليل: استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين، بل بينهما عموم وخصوص مطلق، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهراً، والإيمان تصديق القلب كما قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. انتهى.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف؛ لأن ترادفهما شرعاً لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغوي في بعض المواضع. وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن، وهي جلية، كما هنا. وإلا فآية: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عِمْرَان: 19]، أكبر مناد على اتحادهما. ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقاً وإذا افترقا اجتمعا. والإيمان والإسلام، وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في الفصل فانظره.
الثاني- قال في الإكليل: في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، وهو ظاهر. وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم، الإمام ابن حزم في الفصل، فراجعه.
الثالث- قيل، مقتضى الظاهر أن يقول: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا. أو: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل عنه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً. وقيل: إنه من الاحتباك، وأصله: لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا، ولكن أسلمتم، فقلوا أسلمنا، فخذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر. والأول أبغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم، ثم استدرك عليه فقال: دعوا ادعاء الإيمان، وادّعوا الإسلام، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه، فنفى الإيمان، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك، مع سلامته من الخذف بلا قرينة- هذا ما في القاضي وحواشيه.
{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: فتأمروا لأوامرهما، وتنهوا عما نهياكم عنه. والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا: {لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أي: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئاً، ولا ينقصكم من ثوابها.
قال الزمخشري: يقال: ألته السلطان حقه أشد الألت. وهي لغة غطفان، ولغة أسد، وأهل الحجاز- لاته ليتاً- وحكى الأصمعي عن أم هشام السلولية أنها قالت: الحمد لله الذي لا يفات، ولا يلات، ولا تصمه الأصوات. وقرئ باللغتين: {لاَيَلِتْكُمْ} ولا يألتكم. ونحوه في المعنى: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء: 47].: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لمن أطاعه، وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأنيبوا إليه أيها الأعراب، وتوبوا من النفاق، واعقدوا قلوبكم على الإيمان، والعمل بمقتضياته، يغفر لكم ويرحمكم.
ثم بين تعالى الإيمان، وما به يكون المؤمن مؤمناً، بقوله:

.تفسير الآية رقم (15):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [15].
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} أي: لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله، ونبوة نبيه، وألزموا نفوسهم طاعة الله، وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مهجهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله، لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى- قال ابن جرير: وقدّمنا مراراً أن قصر سبيل الله على غزو الكفار المعتدين، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها، لأنها في سبيل وجهته.
قال الشهاب: وقدم الأموال، لحرص الْإِنْسَاْن عليها، فإن ماله شقيق روحه. و{جَاهَدُواْ} بمعنى: بذلوا الجهد. أو مفعوله مقدر، أي: العدو، أو النفس والهوى.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: الذين صدقوا في ادعاء الإيمان، لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريضٌ يُكذِّب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحضر. أي: هم الصادقون، لا هؤلاء، أو إيمانهم إيمان صدق، وجد.
تنبيهات:
الأول- قال في الإكليل: في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان. وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف، وليرجع في ذلك ما بسطه ابن حازم رحمه الله في الفصل.
الثاني- قال القاشاني: في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الآية إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقي، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها، والتسخر لهيأتها، وذلك معنى قوله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بعد نفي الارتياب عنهم، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ، وأثره في الظاهر. انتهى.
الثالث- قال في الكشاف: فإن قلت: ما معنى ثم ههنا، وهي للترخي. وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارناً للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة، والطمأنينة التي حقيقتها التيقن، وانتقاء الريب؟
قلت: الجواب على طريقتين:
أحدهما- أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان، أو بعض المضلين، بعد ثلج الصدر، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظراً غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمر على ذلك، راكبا رأسه، لا يطلب له مخرجاً. فوصف المؤمنون حقاً بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ}.
والثاني- أن الإيقان وزوال الريب، لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي، إشعاراً باستقراره في الأزمة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً. انتهى.
يعني: أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولاً لم تحدث لهم ريبة، فالتراخي زماني لا رتبي على ما مر في قوله: {ثُمَّ اسْتَقَامُواْ}. أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيهاً على أصالته في الإيمان، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديماً وحديثاً.

.تفسير الآية رقم (16):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [16].
{قُلْ} أي: لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم: {ءَامَنَّا} {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي: أتخبرونه بقولكم: {ءَامَنَّا}، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، من التعليم، بمعنى الإعلام والإخبار، فلذا تعدى للثاني بالباء. وقيل: تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور. وفيه تجهيل لهم وتوبيخ. أي: لأن قولهم: {ءَامَنَّا} إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له، لأنهم كيف يعلّمونه، وهو العالم بكل شيء، كما قال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال ابن جرير: هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا، ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم. يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم، مختوماً بتوعدهم، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (17):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [17].
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} أي: انقادوا وكثّروا سواد أتباعك {قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم} أي: بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إلي: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء: 15]، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في قولكم: {ءَامَنَّا} لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون، لاطلاعه على الغيوب، كما قال:

.تفسير الآية رقم (18):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [18].
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قال ابن جرير يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلّمونا دينكم، وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض.
تنبيهات:
الأول- روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم»- ونزلت هذه الآية-.
وقال ابن زيد: هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيّين أولها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة- والله أعلم.
الثاني- في قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلّالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي»؟- كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمَنّ.
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى: وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصراً، وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً، وأوضحهم حجة وبرهاناً، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية، محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي اتخذه صفياً وحبيباً، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم.
أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذلك ذات الله أبيّة، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنهم شيئاً. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً. لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفّاه، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببنيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلّاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتألم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتواعدت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.
الثالث- قال الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق. وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجاً عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضراً عندهم، أو غائباً عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها- يتعلق بجانب الله.
وثانيها- بجانب الرسول.
وثالثها- بجانب الفسّاق.
ورابعها- بالمؤمن الحاضر.
وخامسها- بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: {يَا أَيَّهَا الَّّذيِنَ ءَامَنُواْ}، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانياً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ}، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيّن ذلك عند تفسير قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}.
وقال رابعاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وقال: {وَلا تَنَابَزُوا} لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامساً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} وقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء بالله، ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم الفاسق؟.
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور. وأما المؤمن الحاضر، أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؟ انتهى.